كتبتها كلارا زيتكن في موسكو – 1925
تعريب مجدي الجزولي من الأصل بالألمانية
التحويل الرقمي: علي بطحة (ديسمبر 2022)
عن النشاط المنظم وسط النساء العاملات
ديكتاتورية البروليتاريا تحرر المرأة
مؤلفة "ذكريات لينين" كلارا زتكن (1857-1933) ثورية ذات شأن من أبكار البلاشفة. ولدت هذه الشيوعية النسوية الباسلة في فيدراو الألمانية وانتهت حياتها في آرخانجلسكوي بالقرب من موسكو في روسيا السوفييتية، وكان مدار نشاطها الثوري بين هذين البلدين، وطموح وهدف نضالها أن ترى ديارها الألمانية على سكة روسيا السوفييتية. كلارا زتكين معلمة بالمهنة، تلقت تعليمها في كلية لتدريب المعلمات في مدينة لايبزغ الألمانية وهنالك نشأت صلاتها الأولى مع حزب العمال الاشتراكي الذي صار لاحقا الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، أكبر الأحزاب الاشتراكية الأوروبية وقتها وأكثرها نفوذا. كان انخراطها في صفوف حزب العمال الاشتراكي عام 1878 سببا لتدهور علاقتها مع أسرتها.
كانت صلة زتكن مع الثوريين الروس صلة قربى إذا جازت العبارة. اقترنت في عشريناتها الباكرة بزوجها الأول الثوري الروسي المنفي أوسيب زتكين الذي مات عنها بمرض السل الرئوي في العام 1889، وقضت معظم ثمانينات القرن التاسع عشر في منفى اختياري في سويسرا وفرنسا تؤلف وتنشر الأدب الثوري الممنوع. وضعت عام 1883 طفلها الأول مكسيم وفي 1885 طفلتها كوستيا. شاركت زتكن في تأسيس الأممية الثانية عام 1889 وعادت عندها إلى ألمانيا واستقرت في شتوتغارت لتحرر الجريدة الاشتراكية النسائية "المساواة" في الفترة 1891 إلى 1917، الجريدة التي ارتفع توزيعها بفضل مهارات زتكين من 11 ألف نسخة إلى 67 ألف نسخة في 1903. شاركت زتكين خلال هذه الفترة في تأسيس المؤتمر الدولي الأول للنساء الاشتراكيات في شتوتغارت عام 1907. اقترحت كلارا زتكن في المؤتمر الثاني للنساء الاشتراكيات الذي انعقد في كوبنهاجن بالدنمارك عام 1910 تخصيص ميقات سنوي لتصعيد النضال من أجل المطالب النسائية، التقليد الذي استقر منذئذ باسم يوم المرأة العالمي.
كانت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) سببا مباشرا للمفاصلة الواسعة والتاريخية داخل الحركة الاشتراكية بين تيار إصلاحي وآخر ثوري. ابتدأت المفاصلة كنزاع آيديولوجي بين تصورين للتقدم نحو الاشتراكية مدارهما مقالات ثم كتاب إدوارد بيرنشتاين "التطور الاشتراكي" (1899)[1]. كان من رأي بيرنشتاين أن الطريق الأسلم لتحقيق الاشتراكية هو النضال النقابي والعمل القانوني البرلماني لا غير، وقال إن توقعات ماركس عن تطور الرأسمالية لم تتحقق، حيث ارتفعت أجور العمل وانثلم بذلك التناقض الحاد بين رأس المال والعمال وقامت محله موضوعيا مساومة كبرى بين الطبقتين العظيمتين في المجتمع الرأسمالي. تصدت روزا لكسمبرغ، الثورية المقتدرة وصديقة كلارا زتكين الشخصية، لآراء بيرنشتاين في كتابها المشهور "إصلاح أم ثورة" (1908)[2] وكذلك فعل لينين في أكثر من موقع فيما عرف لاحقا بالسجال حول التحريفية. لا يتسع المجال في هذه المقدمة القصيرة للتفصيل في هذه القضية، لكنها شكلت الأساس الآيديولوجي لما صار لاحقا المفاصلة داخل الحركة الاشتراكية بين الإصلاحيين القوميين والثوريين الأمميين، ومنهم كلارا زتكن.
عارض التيار الثوري الأممي زيادة تسليح الجيش الألماني أول القرن العشرين ضمن سباق للتسلح بين ألمانيا وانجلترا. هذا بينما وقفت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في صف العسكرة، الأمر الذي انعكس إيجابا على أداء الحزب الانتخابي. صوت نائب اشتراكي واحد في البرلمان الألماني، هو كارل ليبكنخت، زعيم التيار الثوري الأممي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ضد قروض الحرب مخالفا حزبه. قال ليبكنخت في البرلمان: " لم تشن هذه الحرب، التي لا تريدها أي من الشعوب المعنية، لصالح الشعب الألماني أو أي شعب آخر. إنها حرب إمبريالية، حرب للسيطرة الرأسمالية على أسواق العالم وللسيطرة السياسية على البلاد المهمة في مصلحة رأس المال الصناعي والمالي. إنها حرب اندلعت من رحى سباق التسلح، حرب وقائية حرضت عليها أحزاب الحرب الألمانية والنمساوية في خفاء الدبلوماسية السرية والحكم شبه المطلق." في الجهة المقابلة، أعلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي كعب الولاء القومي على التضامن الطبقي الأممي.
كان هذا هو الموقف الذي لزمته كلارا زتكن وخاضت على أساسه نضالات قاسية إلى جانب روزا لكسمبرغ وسواها من أعلام التيار الثوري الأممي من أجل السلام، وقد تبلور في هذه الفترة موقفها الأممي الراسخ المعادي للنزعة القومية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. ألقت السلطات الألمانية القبض على روزا لكسمبرغ في فبراير 1915 بسبب نشاطها المعادي للحرب، وتولت زتكن مهمة تهريب كتاباتها من السجن التي نشرها فرانز مهرنغ في المجلة الجديدة "الأممية". أطلقت السلطات سراح روزا لكسمبرغ في فبراير 1916 وقررت هي والقسط الأعظم من أعلام التيار الثوري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي عندها تأسيس منظمة سياسية سرية باسم "رابطة سبارتاوكوس" تطابق موقفها والبلاشفة الروس في الدعوة إلى تحويل الحرب من نزاع قومي إلى حرب ثورية. اعتزلت الرابطة القوى الاشتراكية الأوروبية التي دعمت الحرب وهاجمتها. نظمت روزا لكسمبرغ عن الرابطة في أول مايو 1916 مظاهرة عارمة معادية للحرب في برلين ضمت فوق العشرة آلاف متظاهر. اعتقل البوليس النائب البرلماني كارل ليبكنخت، صوت السلام في البرلمان الألماني، رغم حصانته البرلمانية عندما حاول مخاطبة المظاهرة ثم حكمت عليه السلطات القضائية بالسجن عامين، الأمر الذي كان سببا لإضراب عشرات الآلاف من عمال صناعة الذخيرة. ردت السلطات باعتقال قادة النقابات وتجنيدهم في الحرب ثم أعادت اعتقال روزا لكسمبرغ في يوليو 1916.
أطلق كارل ليبكنخت من معتقله بوحي الثورة الروسية (1917) نداء للإطاحة بالملكية وتأسيس سلطة سوفييتات في ألمانيا، وذلك بالتزامن مع تمرد بحارة الأسطول الألماني الذين رفضوا القتال في أكتوبر 1918. سيطر البحارة ومعهم آلاف العمال والجنود على ميناء كيل المطل على بحر الشمال ثم الموانئ القريبة منه، وانطلقت بذلك شرارة الثورة الألمانية في 1918. اختار العمال والبحارة مجالس للحكم أصبحت هي القوة التنفيذية. بحلول 8 نوفمبر 1918 كانت كبريات المدن الألمانية في يد المجالس بما في ذلك كولون وميونيخ ودريزدن وفرانكفورت وشتوتغارت بريمين ولايبزغ وروستوك.
أعلن رئيس الحكومة الأمير ماكس فون بادن في 9 نوفمبر 1918 تنحي القيصر فيلهلم الثاني عن السلطة ثم أعقبه بعد ساعات إعلان فيليب شايدمان، أحد زعماء الحزب الاشتراكي الديمقراطي والوزير في الحكومة الجديدة، من شرفة البرلمان أمام عشرات الآلاف من المتظاهرين قيام الجمهورية الألمانية محل الملكية. هرب القيصر الألماني كما هي عادة الملوك عبر الحدود مع هولندا وقضى ما تبقى من عمره في قلعة دورن في هولندا حتى وفاته في 1941. قرر الأمير ماكس فون بادن تسليم السلطة لزعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي فريدريش آيبرت الذي ظل على ولائه للملكية حتى اندحرت بالثورة، ثم لعب دور رأس الرمح في الثورة المضادة اللاحقة، الخدمة التي نال مقابلها موقع أول رئيس للجمهورية الألمانية.
خرج كارل ليبكنخت من السجن في 23 أكتوبر 1918 ضمن عفو عام أرادت به الحكومة تخفيف الحمى الثورية في البلاد، وهيهات. أعلن ليبكنخت من جهته بعد ساعتين من إعلان شايدمان الجمهورية في 9 نوفمبر 1918 من شرفة في قصر مدينة برلين الملكي جمهورية ألمانيا الاشتراكية الحرة. "حل يوم الثورة. لقد فرضنا السلام، تم عقد السلام في هذه اللحظة. انطوى القديم. انتهى حكم آل هوهنزولرن، من سكنوا هذا المكان لقرون. نعلن في هذه الساعة قيام جمهورية ألمانيا الاشتراكية الحرة...انكسر حكم الرأسمالية الذي حول أوروبا إلى جزارة للبشر." أوضح ليبكنخت أن هدف الثورة ما زال في المستقبل: "حكومة عمال وجنود، نظام دولة جديد للبروليتاريا قوامه السلام والسعادة والحرية لإخواننا الألمان وإخواننا في كل العالم. نمد إليكم أيدينا ونهيب بكم إكمال الثورة الأممية." تبلور بذلك تصوران متنافسان للجمهورية الجديدة، تصور قادة الاشتراكي الديمقراطي الذين أصبحوا بفضل الثورة قادة الحكومة، وتصور ليبكنخت ورفاقه ومن خلفهم جموع البحارة والعمال في الموانئ والمدن الثائرة.
رأي آيبرت ورجال الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ليبكنخت ورابطة سبارتاكوس شبح لينين في السياق الألماني، وأدانوا في دعايتهم البلشفية وكل ما تمثله، بل ساووا بين حكم البلاشفة الوليد وديكتاتورية القيصر المخلوع: "نؤكد بما لا يدع مجالا للشك أننا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي ندين بأقوى ما يمكن الأساليب العنيفة للبلاشفة. لا يمكن بأي حال تحقيق الاشتراكية عبر البنادق والرشاشات الآلية. لا سبيل سوى تحقيق الاشتراكية بالوسائل السلمية إذا كان لها أن تدوم." جزم حزب آيبرت أن ما تشهده روسيا ديكتاتورية "لا تقل وحشية أو قسوة عن حكم القيصر الذميم." في غضون ذلك، كانت روسيا السوفييتية تجني أولى ثمار السلطة الجديدة. ألغت حكومة لينين في 8 نوفمبر 1917 الملكية الخاصة للأرض دون تعويض ثم توالت القرارات الثورية وبلغت حتى بداية مارس 1918 ثلاثين مرسوما حول تأميم الصناعات والبنوك. فوق ذلك، حقق لينين وعده بإنهاء الحرب واستقبل بلا تردد هزيمة روسيا في الحرب، بل بارك ذلك ووقع مندوبو السلطة السوفييتية في 15 ديسمبر 1917 اتفاقا لوقف إطلاق النار في بريست ليتوفسك، قاعدة القوات الألمانية في الجبهة الشرقية وقتها، مع تحالف خصوم روسيا في الحرب العالمية الأولى بمن فيهم ألمانيا (القوى المركزية).
كانت مشاهد التفاوض بين الدولة السوفييتية والقوى المركزية الذي انطلق بعد أيام من توقيع وقف إطلاق النار تمثلا حيا لصراع القديم البالي والجديد الثوري. أصر البلاشفة على أن يكون التفاوض جهرا وعلنا، وقطعوا بذلك مع التقليد الراسخ لسرية الدبلوماسية بخاصة العسكرية منها. جاء ممثلو القوى المركزية الأربعة عشر من رجالات هذا البلاط وذاك في كامل زينتهم الآفلة، صورة من العهد القديم، بينما جاء البلاشفة في وفد من ثمانية وعشرين شخص، نساء ورجالا، فيهم عمال وفلاحين وبحارة وجنود، حتى أن وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية المجرية النبيل اشتكى من آداب طعام وفد البلاشفة. ألهمت هذه التحولات الحية بخاصة الدعوة البلشفية للسلم جماهير العمال في ألمانيا وروسيا. خرج في 14 يناير 1918 أربعمائة ألف عامل في برلين وحدها على النظام معلنين الإضراب طلبا للسلام الذي أعلنه البلاشفة. توسع الإضراب ليشمل المليون عامل في ألمانيا ما عطل آلة الصناعة الحربية بالكلية. تدخل رجالات الاشتراكي الديمقراطي بما لديهم من نفوذ في لجان الإضراب بغرض "تسيير هذا الإجراء المفهوم لكن غير المقبول نحو وجهة هادئة وإنهائه بأعجل ما يمكن من خلال المفاوضات مع الحكومة". انهار الإضراب تحت ضغط البوليس والجيش، وانتهى الحال بقادة الإضراب في السجون والمعتقلات بمن فيهن ليو يوغيشس، زعيم رابطة سبارتاركوس في غياب روزا لكسمبرغ وكارل ليبكنخت خلف القضبان.
حررت الثورة ليبكنخت في 23 أكتوبر 1918 ورد التحية بإعلانه الجمهورية الاشتراكية في مقابل الجمهورية الألمانية. جاء في بيان سبارتاكوس الثاني مساء 8 نوفمبر 1918:
"حانت ساعة العمل، ولا مجال للعودة إلى الوراء. يحاول نفس الاشتراكيون، الذين ولغوا في خدمات القوادة للحكومة خلال الأربع سنين الماضية والذين اجتهدوا ما استطاعوا تثبيط هممكم بالبرلمانية وغيرها من السخف، يحول هؤلاء بكل ما أوتوا من قوة إضعاف الثورة بمداهنة حركتكم. أيها العمال والجنود. عليكم أن تحققوا ما حققه رفاقكم في كيل وهامبورغ وبريمين ولوبك وروستوك وفلنزبورغ وهانوفر وماغدبورغ وبرونزڤيك وميونيخ وشتوتغارت. يعتمد نجاح البروليتاريا في كل العالم على شدة ومضاء نضالكم."
حرض ليبكنخت بلا مواربة "ممثلي العمال على الاستيلاء على أجهزة الحكم " و"مد الجسور مباشرة مع البروليتاريا الأممية لا سيما جمهورية العمال الروسية". أعلن العمال صباح 9 نوفمبر 1918 في معظم مصانع العاصمة برلين الإضراب، واحتل جموع العمال والجنود الشوارع. أدرك رجالات الاشتراكي الديمقراطي أن الأرض تميد من تحت أرجلهم، الأمر الذي دفعهم إلى التخلي عن محاولة إنقاذ الملكية ودعم الإضراب، خاصة بعد أن خلع جنود الوحدات العسكرية في العاصمة ولائهم للقصر، ثم إعلان جمهوريتهم في مقابل جمهورية العمال الاشتراكية. كان شاغل زعيم الاشتراكي الديمقراطي فريدريش آيبرت الأساس أن يمنع "وضعا روسيا" في ألمانيا، أي سد الطريق أمام ثورة بلشفية على أمل أن يتحول النظام في ألمانيا إلى ديمقراطية برلمانية بالوسائل السلمية، وأكد في أخر اجتماع له مع الأمير فون بادن أن العدو بالنسبة له هو الثورة الشيوعية: "لا أريدها، أبدا. أكرهها كما الخطيئة." لكن حتى إعلان الجمهورية في تلك الساعة كان أكثر مما يحتمل فردريش آيبرت. ضرب آيبرت الطاولة عندما عاد إليه شايدمان من شرفة البرلمان قائلا ليس من حقك تقرير صيغة الحكم المستقبلية في ألمانيا، هذا ما تقطع فيه جمعية وطنية منتخبة.
كانت المعضلة الأساس التي واجهت حكومة آيبرت هي إعادة إدماج ستة ملايين من الجنود العائدين من جبهات القتال في الحياة المدنية، الأمر الذي فشلت فيه حكومته وانتهى في آخر أمره إلى انهيار النظام البرلماني بل والخطيئة الحقة، صعود النازية ثم سيطرتها على الحكم. كان تقدير آيبرت أنه يمكنه ترويض العسكرية الألمانية لصالحه في حلف مضاد للتيارات اليمينية من جهة ولمن يطالبون بتحول ثوري أكثر راديكالية من جهة أخرى. كان مناط مغامرة آيبرت استغلال الشرخ بين جنود الجبهة الشرقية والجنود في الداخل ممن والوا الثورة وأزاحوا ضباطهم عن القيادة وأعلنوا من مجالس ثورية منتخبة من صفوفهم وجنود الجبهة الغربية ممن ظلوا على ولائهم للملكية وعادوا إلى الوطن برايات الحكم الإمبراطوري الذي انطوى. استقبل آيبرت الجنود العائدين من الجبهة في برلين في 10 ديسمبر 1918 بشعار: "لم يهزمكم أي عدو كان".
بهذا التقدير دخل آيبرت، رجل الدولة، في حلف مع الجنرال كرونر، خليفة لودندورف قائد الجيش الألماني الكسير، تعهد فيه الضابط العظيم بضمان ولاء الجيش للحكومة الجديدة وتعهد فيه آيبرت في المقابل بقمع أي تحركات يسارية بفعالية وإجراء انتخابات عاجلة لجمعية تشريعية وترك قيادة الجيش لكبار الضباط من العهد القديم دون تدخل. كان من رأي كرونر أن الشعب الألماني صار كضحية حمى فتاكة لكن ستهدأ هذه الحمى مع الوقت. كتب كرونر عن حلفه مع آيبرت في مذكراته أن العهد الذي قطعه الجيش مع آيبرت في 10 نوفمبر 1918 وضع الجيش تحت تصرف الحكومة الجديدة في مقابل أن يدعم آيبرت الجيش في قمع البلشفية، الخطيئة في عبارة آيبرت، وحفظ الضبط والربط داخل المؤسسة العسكرية. وكتب في موقع آخر أنه يحترم آيبرت وسيدعمه بكل ما يمكن حتى لا تنزلق العربة إلى اليسار.
لم يتنازل الثوريون عن جمهوريتهم الأخرى وأعلنت رابطة سبارتاكوس وجماعات يسارية قريبة منها في أواخر العام 1918 الاندماج في حزب جديد على الطراز البلشفي، الحزب الشيوعي الألماني، الحزب الذي ضم بين أعلامه روزا لكسمبرغ وكارل ليبكنخت وباول ليڤي وفي مرحلة لاحقة كلارا زتكين. كانت روزا لوكسمبرج قد خرجت للتو في نوفمبر 1918 من سجن دام ثلاثة أعوام. وما أن عادت إلى الحياة العامة حتى تولت وكارل ليبكنخت قيادة الدعوة إلى "ثورة ثانية" تمضي أبعد من الإطاحة بالدولة الملكية. كتبت في عدد 18 نوفمبر 2018 من "اللواء الأحمر"، لسان حال رابطة سبارتاكوس: "شايدمان وآيبرت هما قائدا الثورة المعينان في مرحلتها الحالية، لكن الثورة لا تتوقف، قانون حياتها هو التقدم السريع." تصورت رابطة سبارتاكوس التقدم قطيعة مع الماضي يشمل تأميم الصناعات الرئيسة، ديمقراطية مباشرة من خلال مجالس العمال والجنود، تطهير الخدمة العامة والقضاء من العناصر الموالية للنظام القديم، ومد جسور الصداقة مع النظام الثوري في روسيا ضمن تحالف بروليتاري أممي. اجتمع المؤتمر العام لمجالس العمال والجنود في منتصف ديسمبر 1918 في برلين وفيه اصطرع الخصمان. فاز أنصار الموقف الحكومي من الاشتراكيين الديمقراطيين بالجولة وتبنى المؤتمر الاقتراح الحكومي القائل بانتخاب جمعية وطنية في يناير 1919 بدلا عن اقتراح رابطة سبارتاركوس الإعلان مباشرة عن جمهورية السلطة فيها لمجالس العمال والجنود.
لم يفلح قرار عقد الانتخابات على عجل في فض الصراع على طبيعة ومدى الثورة، ولم يبق سوى النزال بالقوة العارية لحسم ما كانت بادئ الأمر مسألة نظرية وصارت بالثورة قضية ملموسة حرجة. كانت إشارة المواجهة احتدام النزاع بين وحدة لمشاة البحرية متهمة بالبلشفية وقائدها المحافظ. قرر القائد في مناسبة عيد الميلاد من العام 1918 تقليص أعداد جنود الوحدة وتخفيض رواتبهم، وردوا عليه بالتمرد ثم أسروه. بذلك تهيأت لرئيس الحكومة فردريش آيبرت ولضباط الجيش العظام الظروف المواتية للإجهاز على اليسار البلشفي.
طلب آيبرت من الجيش التدخل العاجل، وصار مركز برلين مسرحا للقتال بالمدفعية والرشاشات في ليلة عيد الميلاد 1918، اندحرت القوات الحكومية أول الأمر ثم تحققت لها اليد العليا بالعدد الغالب واستسلم من بقي حيا من وحدة مشاة البحرية المتمردة. رد الشيوعيون بمظاهرة واسعة في 5 يناير 1919 ضمت مئة ألف شخص في برلين. خاطب كارل ليبكنخت المظاهرة العظيمة معلنا أن اللحظة قد حانت لأعتى نضالات البروليتاريا الثورية، والواجب فوق حماية مكتسبات الثورة هو تحويل الثورة إلى ثورة اشتراكية، ثورة أممية! قال مراقب معاصر أن نشوة سرت بين أنصار البلشفية في ذلك اليوم كأنهم في حضرة دينية وشبه "موجة البلشفية العاتية التي تهب من الشرق" بـ"غزو الإسلام في القرن السابع". بالمقابل، بلغ الذعر بالبرجوازية الألمانية مبلغه ونطق آيبرت بهذا الذعر في خطابه لأنصار الاشتراكي الديمقراطي الذين دعاهم للتظاهر لنصر الحكومة ليلة 6 يناير 1918:
"ستسيل دماء غزيرة. يتعذر علينا إعلان أي توافق [مع البلاشفة من أنصار رابطة سبارتاكوس] ونحن نعلم أن الرصاص سيطلق نحو النساء والأطفال، نحو الآباء والأمهات. لن تقبل عصابة سبارتاكوس بأي مخرج آخر، ولا مناص من أن نقوم بالواجب! أيها الجنود، يا من قمتم بما عليكم في ميدان القتال، عليكم أن تعرفوا أن واجبكم الآن هو فرض النظام في برلين وتحقيق السلام حتى يمكنكم نزع الأسمال التي ترتدونها منذ أربعة أعوام ونصف. أخيرا، حان الوقت لحسم الأمور! يا نساء وأطفال المدينة، إلى منازلكم! لا تكونوا مثل أنصار سبارتاكوس الذين يدفعون النساء والأطفال إلى المقدمة. لقد حان وقت أعمال الرجال!"
تولى غوستاف نوسكه، الكادر العسكري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخصم العنيد لرابطة سبارتاكوس، مسؤولية قيادة الجيش في برلين بمهمة فرض النظام والقانون وأعلن عن ذلك بقوله: "لا بد أن يدفع أحدهم الثمن دما، ولن أتورع عن القيام بهذه المهمة". جند نوسكه لمهمته الدموية وحدات الجيش الموالية للحكومة وكذلك مليشيا "الكتائب الحرة" من المتطوعين المدنيين ذوي التوجهات اليمينية الذين جمعهم وحفزهم كرههم الملتهب للشيوعية وكذلك لذات للنظام الجمهوري الذي دعاهم للدفاع عنه. بمعنى آخر جند نوسكه العناصر الاجتماعية المعادية للثورة أو قوى الثورة المضادة التي ظلت تتحين الفرصة للانقضاض على البلشفية وليس بالضرورة للدفاع عن الجمهورية. ضمت هذه العناصر جنودا عائدين بمرارة الهزيمة من جبهات القتال في الحرب العالمية الأولى ومجندين جدد لم يختبروا القتال بعد وطلابا يمينيين عوضوا الذي فاتهم في القتال حقا بالهمجية المحضة، وغذت مشاعرهم صور من بطولة الجندية كما روجت لها آلة الحرب الإعلامية.
استعرت بذلك وسط المليشيا ثقافة ذكورية صغرى قوامها العنف يريد كل أن يبز أخاه في البربرية. اشتملت هذه الثقافة الصغرى على مقت شديد للحركة النسوية المتسعة والنشطة بفضل إبداع وتضحية كلارا زتكين وروزا لكسمبرغ ورفيقاتهما. كانت دعوى اليمين أن "التخنيث" يهدد المجتمع الألماني خاصة بعد أن حققت النساء في 1918 وهم أغلبية السكان بسبب مقتلة الرجال في الحرب حق التصويت غير المشروط. سخرت الصحافة الصفراء من نواب برلمان 1919، من انتخبتهم لأول مرة غالبية من النساء، بأنهم "خيار الهوانم". بالإضافة إلى ما سبق، فتحت الثورة الباب لفك حصار السرية عن المثلية الجنسية فصدرت لأول مرة في ألمانيا مجلات للمثليين من الرجال والنساء والعابرين جنسيا يجدها من يطلبها في الأكشاك أو بالاشتراك البريدي. أفزعت هذه التغييرات على محدوديتها اليمين فزعا شديدا وقد استقر لدى أنصار اليمين بالفعل أن العالم قد انقلب رأسا على عقب بعلة ثورة 1918. في المقابل، وفرت "الكتائب الحرة" لمن انخرطوا فيها حصنا قوامه الزمالة والنظام وهدف ومعنى حياتي ضمن تراتب هرمي واضح بإزاء العالم المتقلب خارجها، عالم المساواة الديمقراطية والشيوعية الأممية والنسوية والمثلية الجنسية.
اختصر أحد رجال "الكتائب الحرة" من الجنود المسرحين العقيدة في العنف في مذكراته قائلا: "ضحكنا عندما قالوا لنا الحرب انتهت لأننا نحن الحرب. تحترق شعلة الحرب في دواخلنا وتعيش في أفعالنا تبعث حولها هالة مرعبة من التدمير. اتبعنا هوى نفوسنا وسرنا في ساحات معارك ما بعد الحرب." ساهمت نظرية المؤامرة القائلة إن الجيش الألماني لم يهزمه العدو، ولا يمكن أن ينهزم، لكن انكسر بسبب خيانة في صفوفه، خيانة اقترفتها الثورة بدعاويها الأممية المنبتة وتحللها الأخلاقي، في تعزيز ثقافة الحصار هذه وصارت ركنا من أركان الفكر اليميني في الفترة ما بعد 1918. روج لهذه الأسطورة قادة الجيش المهزومين بالذات وزينوها بعناصر من الأحاجي الجرمانية المتداولة كمثل مقتل البطل الهمام سيغفريد بطعنة رمح في ظهره سددها له خائن رعديد. تصور رجال الكتائب أن هدفهم هو الانتقام من هؤلاء الخونة في الداخل في يوم حساب لا رحمة فيه حتى يصح الجسد الوطني.
لذا ما أن أعلنت الحكومة في 8 يناير 1919 أن "العنف يجب مواجهته بالعنف" وأن "ساعة الثأر قد حانت" حتى انطلقت مليشيا الكتائب الحرة في برلين إلى جانب القوات الحكومية في حملة انتقام دموية. دك رجال المليشيا مقر جريدة "إلى الأمام" الذي اعتصم به الثوار من أنصار رابطة سبارتاكوس بالمدفعية وقتلوا حتى من استسلموا. بلغ جملة القتلى من أنصار سبارتاكوس في ذلك اليوم من يناير 1919 مئتي قتيل إلى جانب مئات المعتقلين. قاد نوسكه عرض عسكري لثلاثة آلاف من قواته في وسط برلين للاحتفال بانتصار قوى النظام على الشيوعيين واستطاع بحلول 12 يناير 1919 قمع كل جيوب المقاومة الشيوعية في العاصمة.
حاول قادة الشيوعيين، لكسمبرج وليبكنخت، النجاة بالاختباء في مواقع متغيرة حتى انتهى بهما الحال في شقة في ضواحي برلين، كتبا فيها آخر مقالاتهما لجريدة "اللواء الأحمر"، لسان حال رابطة سبارتاكوس. أقر ليبكنخت في مقاله الأخير "رغم كل شيء" بالهزيمة وحث أنصاره على الصبر، وقد "انطمرت الثورة في وحل الثورة المضادة البشع، انزلاق طيني من الطبقات المالكة والعناصر الرجعية من عوام الناس". عبرت لكسمبرغ عن ذات المعني في مقالها "النظام يعود إلى برلين!" الذي أكدت فيه أن الثورة لا بد عائدة. اقتحمت وحدة من "الكتائب الحرة" الشقة في مساء 15 يناير 1919. اعتقل جنود المليشيا لكسمبرغ وليبكنخت وثالثهما فلهلم بيك ثم سلموا المعتقلين الثلاثة لوحدة خاصة من وحدات الجيش الإمبراطوري يقودها فالدمار بابست، الضابط المعروف بعداءه الشديد للبلشفية. استطاع بيك، من عاش ليصبح أول رئيس لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، أن يفلت بجلده بعد أن كشف، بحسب رواية بابست، عن مخابئ أخرى للشيوعيين.
انهال الجنود ضربا على كارل ليبكنخت بأعقاب البنادق في مقر الوحدة الخاصة المؤقت في فندق الخلد ثم ذهبوا به إلى حديقة في وسط برلين وقد فقد الوعي وأطلقوا عليه الرصاص من مسافة قريبة ثم ألقوا بجثته في وحدة إسعاف بدعوى أنها لمجهول. شغلت لكسمبرغ نفسها أثناء وجودها القصير في فندق الخلد بقراءة رواية جوتة "فاوست"، عاد الجنود من رحلة القتل الأولى فأوسعوها ضربا بأعقاب البنادق وقذفوا بها مدمومة في عربة طافت بها لفترة قصيرة حتى قفز إلى جانبها ضابط شاب وقتلها بطلقة واحدة في رأسها. قذف الجنود جثتها في خور تصريف، ووجدت جثتها وقد تحللت في مايو 1919. سار مئة ألف من الناس في جنازة ليبكنخت ولكسمبرغ وثلاثين آخرين من قتلى رابطة سبارتاكوس ورجال البوليس والجيش والمليشيا متربصون.
سالت دماء لكسمبرغ وليبكنخت على حائط إعدام أقامه قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فردريش آيبرت وفيليب شايدمان وغوستاف نوسكه، تبريرهم أنهم بذلك أنقذوا بلادهم من خطر البلشفية. سرعان ما تجرع قادة الاشتراكي الديمقراطي من ذات السم الذي أعدوه لخصومهم. اغتال من قيل عنه أنه مخبول هوغو هاسه، زعيم الجناح اليساري من الاشتراكيين الديمقراطيين، على درج البرلمان بالرصاص عام 1919 ثم اغتالت عصابة يمينية متطرفة وزير الخارجية الليبرالي ڤالتر راتناو عام 1922 وحاولت نفس المجموعة قتل فيليب شايدمان بالسيانايد. مهما كان، لم تسعف هذا الخدمات قادة الاشتراكي الديمقراطي في مواجهة الثورة المضادة وقت اشتد عودها فاقتلعتهم النازية الظافرة بعد أعوام قليلة اقتلاعا وأعدمت جمهوريتهم على ذات الحائط.
كان مقتل ليبكنخت ولكسمبرغ دافعا لكلارا زتكين أن تقطع كل صلة لها مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي وجناحه اليساري وتنضم في عمر 62 عام لحزب الشهداء هذا، الحزب الشيوعي الألماني. قالت في هذا الصدد: "أريد رغم تقدم عمري أن أجاهد طالما أستطيع في صف الحياة لا في صف الهوان والفساد". انتخبت كلارا زتكين نائبة برلمانية عن الحزب الشيوعي الألماني مرة تلو الأخرى في الفترة 1920-1933 حتى انهارت الديمقراطية البرلمانية بسيطرة الحزب النازي على الحكم. جرم النازيون بمجرد وصولهم إلى السلطة الحزب الشيوعي ثم جميع الأحزاب الأخرى وأعملوا ماكينة قتلهم في الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين كذلك، أنصار فردريش آيبرت (1817-1925)، وإن لم يعش الأخير ليشهد العداء للبلشفية في أصفى صوره.
زارت زتكين روسيا السوفييتية أول مرة في 1920 وعادت إليها في 1921 و1922 ضمن وفد حزبها لمؤتمري الكومنترن (الأممية الشيوعية) الثالث والرابع وتم انتخابها في المؤتمر الرابع في عضوية اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية ثم جاءت روسيا قصد الاستشفاء في 1923 وشهدت وفاة لينين في 1924. كتبت بعد وفاة لينين مباشرة "ذكريات لينين" الذي صار أكثر كتبها تداولا. وقفت هذه الشيخة في البرلمان الألماني عام 1932 كونها أكبر الأعضاء سنا لتفتتح دورة نعي البرلمانية وصدعت بحق تعذر التصريح به على غيرها في وجه 230 نائب نازي واجم، من انتخبوا أدولف هتلر رئيسا للحكومة: "واجب الساعة هو جبهة توحد كل العمال لدحر الفاشية والحفاظ على قوة وفعالية المنظمات التي تجمع المستعبدين والمستغلين من كل نوع، بل الحفاظ على حياتهم المجردة. لا بد من أجل هذه الضرورة التاريخية الملزمة أن تتراجع كل الولاءات التي تفرق وتشتت، سياسية، نقابية، دينية أو فكرية كانت." لجأت زتكين بعدها إلى روسيا السوفييتية وفيها أغمضت عيناها للمرة الأخيرة في الساعة الثانية صباحا من يوم 20 يونيو 1933.
*اعتمدت في كتابة هذه المقدمة بالدرجة الأولى على كتاب روبرت غيروارت 19 "نوفمبر 1918: الثورة الألمانية" (2020) إلى جانب مذكرات ڤكتور سيرج من العام 1923 التي صدرت في كتاب بعنوان "شاهد على الثورة الألمانية" (2011) وكتاب وليام بلز "تاريخ شعبي للثورة الألمانية 1918-1919" (2018) وكتاب ديتر غوتزه "كلارا زتكين" (1982) في لغاتها كما يلي:
لطالما تحدث معي الرفيق لينين عن قضية النساء. خص الرفيق لينين قضية النساء أهمية كبيرة باعتبارها مكون جوهري، بل حاسم أحيانا، من حركة الجماهير. كان سؤال مساواة النساء بالنسبة إليه بطبيعة الحال مبدأ شيوعي غير قابل للنقاش. جرى أول حوار طويل بيننا حول هذه المسألة في مكتبه في الكرملين في خريف 1920. جلس لينين عند مكتبه الغاص بالأوراق والكتب وتحدث عن العمل والبحث دون أن يظاهر بـ"عبقرية الفوضى".
ابتدر لينين حديثه بعد التحية بالقول لا بد أن ننشئ على أساس نظري واضح حركة نسائية دولية قوية. لا ممارسة قويمة بدون نظرية ماركسية، هذا واضح. يلزمنا نحن الشيوعيون في هذه المسألة كذلك نقاء فائقا. لا بد أن نميز أنفسنا تمييزا بينا عن جميع الأحزاب الأخرى. فشل يا للأسف مؤتمرنا الدولي الثاني في معالجة قضية النساء. طرح المؤتمر القضية لكن لم يصل فيها لموقف محدد. والمسألة معلقة ما زالت بيد لجنة. يجب على اللجنة أن تصل إلى قرار وأطروحات وموجهات. لكنها لم تحقق تقدما يذكر، وعليك أن تساعدي في هذا الشأن.
كنت قد سمعت ما قاله لينين من مصادر أخرى وعبرت عن اندهاشي لذلك. كنت في غاية الحماس بخصوص ما حققنه النساء الروسيات في الثورة وفي الدفاع عن أنفسهن وفي تطورهن اللاحق. بدا لي الحزب البلشفي الحزب المثالي من حيث موقع النساء ونشاطهن في صفوفه. عزز الحزب البلشفي الحركة الشيوعية الدولية للنساء بعناصر قيمة متمرسة وقدم لها نموذجا تاريخيا.
قال لينين بابتسامة صامتة رقيقة: "هذا صحيح، هذا جميل وممتاز". "أثبتت البروليتاريات في بتروغراد وهنا في موسكو وفي مدن ومراكز صناعية في الأرياف جدارة فائقة في الثورة. ولما انتصرنا بدونهن. هذا رأيي. كن جد شجاعات وما زلن! تصوري كل ما احتملنه من معاناة وما زلن صامدات، لأنهن يردن القوامة في السوفييتات، يردن الحرية والشيوعية. فعلا، البروليتاريات في صفنا مناضلات طبقيات عظيمات. ويستحققن كل الإعجاب والحب. بهذه المناسبة، لا بد من الاعتراف أن سيدات "الديمقراطية الدستورية" في بتروغراد أظهرن كذلك شجاعة في معاداتنا أكثر من شجاعة ضباط القيصر الرجال. هذه حقيقة. لدينا في الحزب رفيقات ذكيات نشيطات مخلصات لا يكلن. واستطعن تولي بعض أهم المواقع في السوفييتات وفي اللجان التنفيذية والشعبية ومواقع الخدمة العامة من كل نوع. يعمل بعضهن ليل نهار في الحزب أو بين جماهير البروليتاريا والفلاحين وفي الجيش الأحمر. هذه مسألة ذات قيمة كبير بالنسبة لنا، ومهمة أيضا بالنسبة للنساء في كل العالم إذ تثبت مقدرة النساء وقيمة عملهن الكبيرة للمجتمع. فتحت أول ديكتاتورية للبروليتاريا الطريق حقا نحو المساواة الاجتماعية الكاملة للنساء. وأزالت أحكاما مسبقا أكثر مما فعلت كل مجلدات الأدب الخاص بحقوق المرأة. ورغم ذلك ليس لدينا حتى الآن حركة شيوعية نسائية عالمية، وهي أمر لا غنى عنه. لا بد أن نشرع مباشرة في تكوينها. يظل عمل أمميتنا وكل أحزابنا ناقصا بدونها. لا بد أن ننجز كل هذا العمل من أجل الثورة. احكي لي عن أحوال العمل الشيوعي في الخارج."
نقلت إليه بقدر ما استطعت ما كان يدور وقتها وقد كانت العلاقات بين الأحزاب التي انضمت إلى الأممية الشيوعية ما زالت ضعيفة وغير منتظمة. أنصت لينين بانتباه بالغ، مال بأعلى جسمه إلى الأمام قليل دون أي علامة على الملل أو العجلة أو الإرهاق، استمع باهتمام متحفز وتابع حتى الأمور الثانوية. لم أعرف أي شخص له القدرة على الإنصات وعلى ترتيب ما سمع واستخلاص العبر العامة منه أفضل من لينين. كشفت عن ذلك أسئلته القصيرة والمحددة دائما التي طرحها في سياق التقرير وعودته إلى هذه النقطة أو تلك في سياق الحديث اللاحق. كتب لينين كذلك بضع ملاحظات قصيرة.
تحدثت بطبيعة الحال بإسهاب عن الوضع في ألمانيا. أخبرت لينين أن روزا لكسمبرغ جعلت الوصول إلى أوسع جماهير النساء في الصراع الطبقي أولوية قصوى لعملنا. أصرت روزا لكسمبرغ بعد تأسيس الحزب الشيوعي على إصدار جريدة للنساء. ناقشت وليو يوغيشس في آخر اجتماع لي معه – قبل أيام من اغتياله الغادر – النشاطات القادمة للحزب ونقل لي تكاليف مختلفة من بينها خطة للعمل المنظم وسط النساء العاملات. انشغل الحزب في أول مؤتمراته تحت اللاشرعية بهذا السؤال. اختارت العناصر النسوية القيادية والمدربة المتمرسة بلا استثناء تقريبا صف الاشتراكية الديمقراطية بطيفيها واحتفظن بالبروليتاريات الحركيات والمتحفزات تحت قيادهن. لكن اجتمع نفر قليل من الرفيقات المستعدات للتضحية والنشيطات وشاركن بفعالية في كل أعمال ونضالات الحزب. بدأت هذه المجموعة في تنظيم النشاط المخطط وسط البروليتاريات. كانت هذه بطبيعة الحال مجرد بداية، لكنها على أي حال بداية جيدة.
ليس سيئا، ليس سيئا على الإطلاق، قال لينين - تفتح هذه الطاقة وهذا الاستعداد للتضحية والحماس من جانب الرفيقات، هذه الشجاعة وهذا الذكاء في سياق لا شرعي وشبه شرعي أفقا لتطور العمل. هذه ساعة مهمة لتمدد الحزب وتوسع نفوذه وقدرته على الوصول إلى الجماهير والنشاط الفعال. لكن ما مدى وضوح المسألة بالنسبة للرفيقات والرفاق وما مدى تمرسهم؟ هذه مسألة ذات أهمية مبدئية في خصوص العمل وسط الجماهير، مسألة تؤثر بحسم على الذي يصل إلى الجماهير، ما يلهمها ويشحذ هممها. لا أذكر هذه اللحظة من قال: "لا بد من الشغف لتحقيق الإنجازات الكبرى". وعلينا وعلى كل العاملين في كل العالم تحقيق إنجازات كبرى! ماذا إذن يثير حماس رفيقاتكن، النساء البروليتاريات في ألمانيا؟ ما مدى وعيهن الطبقي؟ هل يتركز اهتمامهن ونشاطهن على واجبات الساعة السياسية؟ ماذا يشغل أفكارهن؟
سمعت الكثير الطريف عن هذه المسألة من الرفاق الألمان والروس. قيل لي، أن شيوعية موهوبة في هامبورغ أصدرت جريدة للعاهرات وتريد تنظيمهن للنضال الطبقي. عبرت روزا لكسمبرغ كشيوعية عن شعور إنساني وتصرفت بإنسانية عندما دافعت في إحدى مقالاتها عن العاهرات اللواتي انتهى بهن الحال في السجن بسبب مخالفات اقترفنها ضد القانون في إطار عملهن المحزن. هن ضحايا مزدوجات للمجتمع البرجوازي، ضحايا لنظام الملكية اللعين وفوق ذلك للنفاق الأخلاقي اللعين. هذا واضح. لا يمكن سوى لإنسان قصير النظر وجلف تماما أن ينسى ذلك. لكن السعي إلى تنظيم العاهرات كقوة نقابية ثورية وتحرير جريدة نقابية لهن مسألة مختلفة كلية. أليس في ألمانيا عاملات صناعيات يجب تنظيمهن وإصدار جريدة لهن وجذبهن إلى مواقع الصراع الطبقي؟ القضية هنا قضية نبت مرضي. ويذكر بالموضة الأدبية تصوير كل عاهرة في هيئة قديسة. حتى في حال هذه الموضة الأصل طيب، التعاطف الاجتماعي، واستنكار النفاق الأخلاقي للبرجوازية الشريفة. لكن تلوث هذا الباعث الطيب على يد البرجوازية وتداعى. تطرح علينا مسألة البغاء معضلة حقة. القضية هي كيفية العودة بالعاهرات إلى العمل المنتج وإدماجهن في اقتصاد المجتمع. وهذه مهمة صعبة التنفيذ في الأحوال العامة الحالية وفي وضع اقتصادنا كما هو عليه. وبذلك يجابهنا جانب من قضية المرأة يطلب حلا عملينا متى استولت البروليتاريا على سلطة الدولة. وسيشغلنا كثيرا هنا في روسيا السوفييتية. لكن لنعد إلى حالة ألمانيا. يجب ألا يرقب الحزب مثل هذا الضلال من أعضائه دون أن يفعل شيء. هذا سيثير البلبلة ويفتت القوى. وأنت، ماذا فعلت أنت ضد كل هذا؟
لكن قبل أن أجيب واصل لينين قائلا: أما أنت يا كلارا فحساب ذنوبك طويل. سمعت أن الرفيقات مستغرقات في سؤال الجنس والزواج في أمسيات القراءة والنقاش، وصار هذا السؤال موضوعا أساسا للاهتمام والدرس والتعليم. لم أصدق أذني أول الأمر. تصارع أول دولة لديكتاتورية البروليتاريا الثورة المضادة في كل العالم، ويتطلب الوضع في ألمانيا نفسه أعلى درجات تركيز كل القوى البروليتارية والثورية للإطاحة بقطب الثورة المضادة الأكثر تقدما، هذا بينما تناقش الرفيقات في نشاطهن سؤال الجنس وصيغ الزواج في الماضي والحاضر والمستقبل ويعتبرن تنوير البروليتاريات حول هذه المسألة أهم واجباتهن. عرفت أن أكثر النصوص قراءة هو كراسة لرفيقة من فيينا حول سؤال الجنس. أي خبوب هذا! سبق وقرأ العمال ما يهم في هذه الأمور عند بيبل[3]، لكن ليس بهذه الصيغة المملة وهذا التقسيم الجامد الذي طرحته الكراسة وإنما تأجيجا وحماسا وعنفوانا ضد المجتمع البرجوازي. يبدو التوسع في هذه المسألة من خلال مقولات فرويد "تثقيفا" بل ربما طبع الكراس بطابع علمي، لكنه محض لهوجة. ونظرية فرويد اليوم ضرب من ضروب الموضة. أشك في هذه النظريات الجنسية التي تطرأ في المقالات والكراسات والدراسات ...الخ التي تنمو وتزدهر في طينة المجتمع البرجوازي النتنة. كما أشك في الذين لا شاغل لهم سوى المسألة الجنسية كما الراهب الهندي يتأمل صرته. يبدو لي أن تكاثر هذه النظريات الجنسية، وهي في غالبها فرضيات ليس إلا، وفي أحيان كثيرة فرضيات اعتباطية، ينبع من حاجة شخصية لتبرير حياة جنسية غير طبيعية أو متفاقمة في قياس الأخلاق البرجوازية ومحاولة لتوسل تسامحها. أستهجن هذا الاحترام الذليل للأخلاق البرجوازية كما أستهجن التطفل على الحياة الجنسية. ربما تراءى هذا الانشغال بالحياة الجنسية كأنه أمر ثوري جامح لكنه في الواقع برجوازي حتى النخاع. وهو انشغال أثير للمثقفين والفئات القريبة منهم. ليس هنالك في الحزب وسط البروليتاريا المناضلة الواعية بنفسها مكان لذلك.
هنا قاطعت لينين قائلة إن مسألة الجنس والزواج تحت سيادة الملكية والنظام البرجوازية تسبب مشاكل متعددة الأوجه وصراعات ومعاناة للنساء من كل الطبقات والفئات الاجتماعية. فاقمت الحرب ونتائجها هذه الصراعات وهذه المعاناة للنساء بالذات فيما يخص الشؤون الجنسية بصورة حادة وأسفرت عن مشاكل كانت محجوبة في السابق. أضف إلى ذلك الجو الناجم عن الثورة التي أز أزيزها. بدأ مبنى الأفكار والمشاعر القديمة يترنح. تتفكك الصلات الاجتماعية التي كانت قائمة، بل وتتقطع، وتظهر علامات على توجهات آيديولوجية جديدة تتباين من شخص إلى آخر. وما الاهتمام بهذه الأسئلة سوى انعكاس لهذه الحاجة إلى الاستنارة والتكييف الجديد. كما يظهر رد فعل مضاد لنشاز ونفاق المجتمع البرجوازي. وتحول صيغ الزواج الأسرة عبر التاريخ تبعا للاقتصاد أمر ملائم جدا لتحطيم خرافة ديمومة المجتمع الرأسمالي في فكر البروليتاريات. وشرط التصور التاريخي النقدي لهذه المسألة أن يساهم في تفكيك النظام البرجوازي بلا هوادة وكشف جوهرة وتبعاته، بما في ذلك فضح نفاق العفة. تؤدي كل الطرق إلى روما. وكل تحليلي ماركسي حقيقي لأي جانب مهم من جوانب البناء الفوقي الآيديولوجي للمجتمع، أوي أي ظاهرة اجتماعية، يصب لا غرو في تحليل النظام البرجوازي وأساسه في علاقات الملكية، وقرطاج لا بد هالكة!
أومأ لينين برأسه مبتسما. – ها هو ذا، أنت تدافعين بشغف عن رفيقاتك وحزبهن! بطبيعة الحال، ما قلتيه صحيح. لكن هذا لا يبرر ولا يمحو الخطأ الذي وقع في ألمانيا على أي حال. خطأ يبقى خطأ. هل يمكنك ضمان أن تتم مناقشة مسألة الجنس في حلقات القراءة والنقاش المسائية من موقع المادية التاريخية الناضجة الحية. هذا يتطلب علما واسعا متعدد الجوانب وتمكن ماركسي من مواد هائلة. من أين لكن بالقدرات على ذلك؟ وإذا توفرت هذ القدرات لما صارت كراسات كمثل التي ذكرت موضوعا للدراسة في حلقات القراءة والمناقشة المسائية. يتم تزكيتها ونشرها بدلا عن نقدها. ما مغزى هذه المناقشة المبتسرة وغير الماركسية لهذه القضية؟ أن يتم طرح مسألة الجنس والزواج في انفصال عن السؤال الاجتماعي الكبير. أو بالعكس أن يبدو السؤال الاجتماعي كطرف زائد من المشاكل الجنسية. تتراجع القضية الأساس أمام مسألة ثانوية. هذا لا يضر فقط بوضوح هذا السؤال بالذات، لكن يغبش التفكير وفوق ذلك الوعي الطبقي للبروليتاريات عموما.
بخلاف ذلك وليس أخيرا! حتى سلمان الحكيم سبق وقال: لكل شأن زمانه. أستعطفك، هل هذا هو الوقت المناسب لتسلية البروليتاريات شهر بعد شهر عن كيف يُحِب المرء وكيف يُحَب، وكيف يَنكح ويُنكح، بكل طبيعية وفي الماضي والحاضر والمستقبل وبين شعوب مختلفة، وهذا تسمونه بفخر المادية التاريخية! لا بد أن تتجه أفكار كل الرفيقات وكل نساء الشعب العامل نحو الثورة البروليتارية. والثورة ستتولى تجديد قاعدة الزواج والعلاقات الجنسية. أما الآن فهنالك في واقع الأمر مشاكل أخرى ذات أولوية خلاف صيغ الزواج وسط الشعوب الأصلية وزواج الأخوة في العصور السحيقة. ما زالت قضية المجالس (السوفييتات) تتصدر الأجندة في ألمانيا، معاهدة فرساي وأثرها على حياة جماهير النساء، العطالة، الأجور المتهاوية، الضرائب وغيرها الكثير. بالمختصر، أنا على رأيي أن هذا النوع من التعليم السياسي الاجتماعي للبروليتاريات خاطئ، خاطئ مرة واحدة. كيف تصمتين عليه، كان عليك أن تتدخلي ضده بما لديك من سلطة.
شرحت للصديق المتحمس أنني لم أستبق نقدا تجاه الرفيقات القائدات وفي المواقع المعنية. وهو بالذات يعرف ألا كرامة لنبي في وطنه وبين بني جلدته. وصرت بسبب نقدي هذا موضع شبهة، شبهة أني ما زلت على شيء من التصورات الاشتراكية الديمقراطية وبي مسحة من التعفف البرجوازي البالي. رغم ذلك لم يكن النقد بلا طائل. لم يعد سؤال الجنس والزواج في مركز اهتمام الكورسات وأمسيات النقاش. تابع لينين أفكاره وأسهب.
قال أعرف، أعرف. وأنا أيضا متهم في هذه المسألة بالتحفظ المقيت، وكم أستهجنه. وهذه تهمة طيها كثير من النفاق وضيق الأفق، لكنى أتحمل صابرا! هؤلاء الزغب الذين لما يغادروا بعد بجد عش التصورات البرجوازية شطار جدا! هذا ما يجب أن نتعامل معه بصبر. حتى حركة الشباب أصابها مرض توجهات الحداثة حول الجنس والانشغال المفرط به. كر لينين كلمة حداثة ساخرا وكشر باستنكار. لقد تلقيت تقريرا أن المسألة الجنسية هي كذلك موضوع الدراسة الأثير في منظماتكم الشبابية، حتى أن عدد المحاضرين في هذا الموضوع لم يعد يكفي. هذا الهراء مضر جدا، بل خطر جدا في حركة الشباب. يمكن أن يساهم عند البعض في تأجيج وإضرام الحياة الجنسية بما يجرف صحة هؤلاء الشباب ويهدد قوتهم. عليك أن تكافحي هذه الظاهرة، هنالك أكثر من نقطة تلامس بين حركة النساء وحركة الشباب. يجب على رفيقاتنا أن يعملن في كل موقع وفق خطة مع الشباب. هذا يعد توسيع وترقية للأمومة من حيز الفردية إلى الحيز الاجتماعي. ويجب تشجيع كل ما يحفز الحياة والفاعلية الاجتماعية للنساء بما يساعدهن على خلع ضيق الفردانية والحياة المنزلية. تفرع بنا الحديث.
عدد كبير من الشباب مشغول هنا بيننا كذلك بشغف بـ"مراجعة" ما يعتبره "التصورات البرجوازية والأخلاق" بخصوص الجنس. ولا بد أن أضيف أن ذلك يشمل عدد كبير من أفضل عناصرنا الشبابية الواعدة بحق. الأمر كما سبق وقلت أنت. تتحلل القيم الآيديولوجية القديمة وتفقد قوتها الرابطة في جو تداعيات الحرب والثورة الناشبة. تتبلور القيم الجديدة في خضم الصراع بتؤدة. تصيب التحولات الثورية حتى المشاعر والأفكار المحيطة بالعلاقات بين الأفراد وبين النساء والرجال. ترتسم حدود جديدة بين حقوق الفرد وحقوق المجموع، وبذلك واجبات الفرد. ما زالت كل هذه الأمور في حال فوران فوضوي. ولما يتضح بعد الاتجاه، ولما تنبلج قوة النمو الذاخرة في التيارات المتعددة والمتناقضة. هذه عملية نشوء وتدهور طويلة وفي أكثر الأحيان مؤلمة، بخاصة في مجال العلاقات الجنسية والزواج والأسرة. يثير تدهور وفساد الزواج البرجوازي بل وقذارته، رباطه صعب الفكاك، الحرية للزوج والاستعباد للزوجة، والنفاق الأخلاقي المقرف المحيط بالجنس وعلاقاته، كل ذلك يثير أعمق مشاعر الاشمئزاز عند كل نصيح طيب.
يسعر جبر الزواج البرجوازي وقوانين الأسرة في الدول البرجوازية من شدة الشرور والصراعات، فهو من جنس جبر "الملكية المقدسة". يضفي التقديس على التسليع والدناءة والقذارة، ويكمل النفاق المعهود للمجتمع البرجوازي الراقي ما تبقى. يبحث الناس عن حقوقهم بالتضاد مع القرف الطاغي ومخالفة الطبيعة. تتبدل مشاعر الفرد بسرعة، يتلبس الشبق والشوق إلى التغيير في المتعة بيسر لباس العنف غير المنضبط، وذلك في زمان تتحطم فيه الممالك القديمة وتنهار علاقات الهيمنة القديمة، بل يبدأ عالم اجتماعي بحاله في التداعي. لا تكفي الإصلاحات في شأن الجنس وصيغ الزواج البرجوازي. لا بد من ثورة في مجال الجنس والزواج تكافئ الثورة البروليتارية. ولا غرو إذن أن تشغل هذه القضية المعقدة والملتبسة النساء والشباب بخاصة، بالذات ووحل هذه الأوضاع الجنسية يصيب الشباب والنساء بخاصة ويسبب معاناة شديدة. يتمرد الشباب بكل ما فيهم من تهور ضد هذه الأوضاع. وهذا أمر مفهوم. ليس أكثر خبالا من تزكية العفة الرهبانية وقدسية الأخلاق البرجوازية للشباب. لكن المقلق هو أن يصبح الجنس مركز الاهتمام النفسي وهو أصلا في هذه المرحلة موضوع الاهتمام البدني. أي أضرار كارثية يمكن أن تنجم عن ذلك. اسألي متى حانت الفرصة رفيقتنا ليلينا عن هذه القضية [مديرة قطاع التربية الشعبية في لينينغراد]. لديها ربما خبرة في هذا المجال بحكم عملها الواسع في مختلف معاهد التربية، وتعرفين لا شك، هي شيوعية حتى النخاع متحررة من الأحكام المسبقة.
إن اختلاف منظور الشباب تجاه المسائل الجنسية أمر مبدئي بطبيعة الحال ويستقي من نظرية. بعضهم ينعت هذا المنظور بـ"الثوري" والبعض الآخر ينعته بـ"الشيوعي". يعتقدون بصدق أن الأمر كذلك. هذا لا يروقني أنا العجوز. يبدو لي وأنا لست أقل من متقشف كئيب أن "الحياة الجنسية الجديدة" للشباب – وربما للعصر كله – برجوازية خالصة، توسع للماخور البرجوازي القديم المعلوم. كل هذه الجلبة لا تمت للحب الحر بصلة، كما نفهمه نحن الشيوعيون. تعرفين بالطبع النظرية الرائجة أن إشباع الرغبات الجنسية في المجتمع الشيوعي في بساطة وبداهة شرب كوب من الماء. انفتن شبابنا بنظرية شرب كوب الماء هذه، وصارت مصيبة على الكثيرين من الصبيان والصبايا. يقول معتنقو هذه النظرية أنها ماركسية. وأحمد هذه الماركسية التي تستقي كل مظاهر وتحولات البناء الفوقي للمجتمع مباشرة من أساسه الاقتصادي. لكن ليست الأمور بهذه السذاجة، أبدا. هذا ما كان أثبته من اسمه فردريك انجلز مبكرا بخصوص المادية التاريخية.
نظرية كوب الماء الشهيرة هذه في رأيي ليست ماركسية على الإطلاق، وفوق ذلك ليست حتى اجتماعية. الحياة الجنسية لا تتأثر فقط بما هو طبيعي، لكن كذلك بما هو ثقافي، كان راقيا أو دنيئا. أشار إلى ذلك فردريك انجلز في كتابه "أصل العائلة" (1884)[4] مؤكدا أهمية تطور وترقي الغريزة الجنسية في عمومها إلى غريزة حب فردي. والعلاقات بين الجنسين ليست مجرد تعبير عن التبادل بين اقتصاد المجتمع وحاجة بدنية يمكن عزلها مفهوميا برصدها فزيولوجيا. العقلانية وليست الماركسية هي التي تريد عزل التحولات في هذه العلاقات عن مجمل الآيديولوجيا وردها مباشرة إلى الأسس الاقتصادية للمجتمع. لا شك، العطش يتطلب الرواء، لكن هل يستلقي الإنسان العادي تحت الظروف العادية في قاذورات الشارع ويشرب من أي بركة وحلة أم يشرب من أي كوب داهن الطرف من كثرة الشفاه. أهم من ذلك الجانب الاجتماعي. شراب الماء مسألة فردية في حقيقة الأمر. الحب يجمع إثنين، وثالثهما حياة جديدة. محل مصلحة المجتمع هي هذه الحقائق، وهنا مناط المسؤولية تجاه الجماعة.
ليس لي كشيوعي أدنى تعاطف مع نظرية شرب كوب الماء، حتى وأن تزيت بالعبارة الجميلة: "تحرير الحب". وبالمناسبة، تحرير الحب هذا ليس أمرا جديدا وليس شيوعيا. تذكرين أن الأدب الرفيع بشر بنفس المعنى في منتصف القرن الماضي تحت عنوان "تحرير القلب". لكن انفضح ذلك بأنه تحرير الغريزة. كان التبشير وقتها أكثر حنكة منه اليوم، لكن ليس بوسعي الحكم على صلة تبشير اليوم بالممارسة. لا أقصد بنقدي تزكية التنسك، بل بالعكس السعادة بالحياة وطاقة الحياة من خلال حياة حب غنية مكتملة. لكن لا يؤدي هذا التهافت الجنسي في رأيي إلى سعادة الحياة أو طاقتها، بل ينقص منها. وهذا في عصر الثورة أمر ذميم، ذميم للغاية.
خاصة والشباب يحتاج إلى سعادة الحياة وطاقة الحياة. رياضة صحية وجمباز وسباحة وتمارين بدنية من كل نوع، والسياحة في الطبيعة وتنوع الاهتمامات الذهنية. التعلم، الدراسة، الاكتشاف وكل ذلك بقدر الإمكان جماعيا. كل ذلك سيهيئ الشباب أكثر من المحاضرات والمناقشات الأبدية عن المشاكل الجنسية وما يسمي متعة العيش بجسم وعقل سليمين. ليس المثال هو الناسك أو العربيد دون جوان وكذلك لا فلاح في الحل الوسط للبرجوازي الألماني الصغير. تعرفين لا شك الرفيق فلان. شاب هائل وصاحب موهبة عظيمة. لكن أخشى لن ينتهي أمره إلى أي نفع، يصول ويجول بين النسوة. هذا لا ينفع في الصراع السياسي، لا ينفع في الثورة البتة. لا أراهن إطلاقا على موثوقية صمود النساء الذين تختلط لديهن الغراميات الشخصية مع السياسة والنضال. ولا أعول على الرجال الذين ينطلقون خلف كل تنورة صيدا سهلا لأي صبية. لا لا، هذا لا يتسق مع الثورة. – وقف لينين وضرب بيده على الطاولة وخطا عدة خطوات في الغرفة.
تتطلب الثورة التركيز وتنامي القوى وتصاعدها، من الواحد منا ومن الجماهير. لا تتسامح الثورة مع التفسخ كما هو المعتاد عند أبطال وبطلات [غابرييل] دانونزيو[5]. فجور الحياة الجنسية طبع برجوازي، وعلامة على التفسخ. البروليتاريا طبقة صاعدة، لا تحتاج إلى النشوة لتخدر أو تحفز نفسها، كان ذلك نشوة التكالب الجنسي أو نشوة الخمر. لا يجوز ولا تريد أن تنسى نفسها أو تنسى رذالة وقذارة ووحشية الرأسمالية. تستقبل البروليتاريا أقوى محفزات الصراع من وضعها الطبقي، من المثال الشيوعي. وتحتاج الوضوح، والوضوح ومرة أخرى الوضوح. لذا أكرر، لا لإضعاف، لا لهدر ولا لتخريب القوى. ضبط النفس والسيطرة عليها ليست عبودية، بما في ذلك في الحب. اعذريني كلارا، سرحت بعيدا من نقطة بداية نقاشنا. لماذا لم تتدخلي بنقطة نظام. لقد انفلت لساني بالهموم. يشغل فؤادي مستقبل شبابنا، فهو قطعة من الثورة. ومتى تسربت ظواهر مؤذية من المجتمع البرجوازي إلى عالم الثورة – كما تتمدد جذور الأعشاب الضارة – لزمت مقارعتها باكرا. والأسئلة التي خضت فيها هي بالمناسبة جزء كذلك من قضية النساء.
تحدث لينين بحيوية وإلحاح بالغين. شعرت أن كل كلمة خرجت من فؤاده حقا وعززت هذا الشعور تعابير وجهه. أكد أحيانا على فكرة بحركة يد حيوية. أعجبني أن لينين خص ظواهر فردية بكل هذا الاهتمام والفكر إلى جانب قضايا السياسة الكبرى الشاخصة. وذلك ليس في روسيا السوفييتية وحدها، بل وأيضا في البلاد الرأسمالية. أدرك كماركسي نموذجي معنى وقيمة الظاهرة الفردية، أينما وكيفما تبدت، في علاقتها مع الكل الكبير. كان هدف حياته وإرادة هذه الحياة قضية واحدة صمدية كأنها قوة طبيعية جارفة لا يكمن مقاومتها: التعجيل بالثورة كمنجز جماعي. قدر وقايس كل شيء من منطلق تأثيره على الدوافع الواعية للثورة، كان ذلك على المستوى القطري أم الأممي. وتعليل ذلك أن الثورة البروليتارية العالمية غير المجزأة كانت على الدوام نصب عينيه مع الاعتبار التام للخصائص التاريخية لكل بلد وموقعها في مدارج التطور.
ندهت: أيها الرفيق لينين، ليت المئات، بل الآلاف سمعوا كلمتك هذه. تعلم بالتأكيد أنك لا تحتاج أن تهديني. لكن مهم أن يسمعك الصديق والعدو معا. ابتسم لينين بحبور. ربما أتحدث أو أكتب مرة عن هذه الأسئلة. لاحقا – ليس الآن. يجب الآن تركيز كل القوى والوقت على أمور أخرى. هنالك هموم أكبر وأثقل. لم ينته النضال من أجل إثبات وتعزيز السلطة السوفييتية بعد. لا بد أولا أن نهضم ما تعنيه نهاية الحرب في بولندا ونفوز من ذلك بأفضل ما تيسر. والنزاع لم ينقطع في الجنوب. إني على ثقة أكيدة أننا سندبر الأمر. هذا سيشغل كذلك الإمبرياليين الفرنسيين والإنجليز ووكلائهما الصغار ردحا. وأمامنا المهمة الأصعب على الإطلاق، البناء. ستبرز عندها قضايا العلاقات الجنسية والزواج والأسرة كقضايا ملحة. وحتى ذلك الحين عليكم مواجهتها حيثما ووقتما دعت الضرورة. لكن يجب أن تحولوا دون معالجة هذه القضايا بطريقة غير ماركسية وألا تتركوا المجال لتمدد التبذل والانحرافات التخريبية. وبذلك ننتقل أخيرا إلى عملك.
نظر لينين إلى الساعة. – لقد انقضى نصف الوقت المخصص لمقابلتك، ثم أضاف أطلت الحديث. عليك صياغة موجهات للعمل الشيوعي وسط جماهير النساء. ولتكن مناقشتنا عن العمل إذن قصيرة. هيا قولي. كيف تتصورين هذه الموجهات؟ - قدمت له ملخصا مختصرا وكرر الإيماء برأسه إيجابا دون أن يقاطعني. نظرت إليه بتساؤل بعدما انتهيت. موافق - هكذا كان رأيه. ناقشي الموضوع مع زينوفييف. وأقترح أن تقدمي تقريرا في اجتماع للرفيقات القائدات للمناقشة. خسارة أن الرفيقة [إنيسا] آرماند ليست هنا. سافرت إلى القوقاز وهي مريضة. أكتبي الموجهات بعد المناقشة. ستنظر فيها لجنة من بعد ذلك وتعرضها على اللجنة التنفيذية لاتخاذ القرار النهائي بشأنها. أريد فقط أن أعبر عن وجهة نظري حول بعض النقاط الرئيسة التي أشاركك فيها الرأي تماما. وهي نقاط مهمة في عملنا الدعائي والتحريضي الحالي، إن كان من شأنه أن يهيئ بنجاح للنشاط والنضال.
على الموجهات أن تجهر بوضوح أن تحرير النساء الحقيقي غير ممكن سوى بالشيوعية. ويجب بيان العلاقة الوثقى بين الموقع الاجتماعي والإنساني للمرأة والملكية الفردية لوسائل الإنتاج بيانا تاما. وبذلك يستقيم الخط الفاصل غير القابل للتمويه بإزاء دعاوى الحقوقية النسائية. كما يوضع بذلك الأساس لفهم قضية النساء ضمن القضية الاجتماعية وقضية العمال وربطها بعزم بالنضال الطبقي البروليتاري والثورة. يجب أن تصبح الحركة النسائية الشيوعية حركة جماهيرية، جزء من الحركة الجماهيرية العامة، ليس فقط حركة البروليتاريين بل كل المستغلين والمضطهدين من كل شاكلة، كل ضحايا الرأسمالية. هنا مغزى الحركة النسائية في سياق النضالات الطبقية للبروليتاريا ومشروعها التاريخي: المجتمع الشيوعي. جاز لنا أن نفخر أن لدينا صفوة من النساء الثوريات في الحزب وفي الأممية الشيوعية. لكن هذا غير حاسم البتة. لا بد أن نكسب إلى صفنا ملايين النساء العاملات في المدن والأرياف إلى جانبنا، في نضالنا، خاصة في شأن التحول الشيوعي للمجتمع. ليس هنالك حركة جماهيرية يعتد بها بدون النساء.
نستخلص من تصورنا الآيديولوجي المهام التنظيمية. لا مجال للاتحادات الخاصة بالشيوعيات. مكان المرأة الشيوعية كما الرجل الشيوعي هو الحزب، بذات الواجبات والحقوق. لا مجال في هذا الشأن لاختلاف الآراء. لكن لا يجوز أن نغفل أمر مهم. يجب أن يكون للحزب أجهزة ومجموعات عمل ومفوضيات ولجان، أو ما شئت من تسميات، مهمتها الخاصة هي إيقاظ أوسع جماهير النساء وربطهم بالحزب والحفاظ على نفوذ الحزب وسطهم على الدوام. من ذلك بطبيعة الحل أن ننشط بصورة منظمة مدروسة وسط جماهير النساء. علينا أن نعلم اليقظات منهن ونجندهن ونسلحهن للنضال الطبقي البروليتاري تحت قيادة الحزب الشيوعي. لا أفكر في هذا الخصوص فقط في البروليتاريات، في الحقول كن أو أمام المواقد المنزلية. أفكر كذلك في صغار المزارعات، ونساء البرجوازية الصغيرة من الفئات المختلفة. كلهن واقعات تحت استغلال الرأسمالية، ومنذ الحرب أكثر من ذي قبل. واقع الأمر أن سيكولوجية جماهير النساء هذه غير اجتماعية، تحيط بهن دائرة نشاط وظروف حياة عازلة، ومن الجنون، من تمام الجنون ألا نعر ذلك اهتماما. نحتاج إذن أجهزة خاصة للعمل وسطهن، أساليب خاصة للتحريض وصيغ خاصة للتنظيم. هذه ليست محض حقوقية نسائية، هذا نشاط عملي ثوري هادف.
قلت للينين أن كلمته القيمة شجعتني أيما تشجيع. يقاوم الكثير من الرفاق، الكثير جدا منهم، الفكرة الحاسمة أن ينشئ الحزب أجهزة خاصة للعمل المخطط وسط جماهير النساء الواسعة، بل دمغوا ذلك بأنه مجرد حقوقية نسائية وردة إلى تقاليد الاشتراكية الديمقراطية. وزعموا أن الأحزاب الشيوعية، بما أنها تساوي مبدئيا بين النساء والرجال في المجمل، لا تحتاج مثل هذا التمييز في نشاطها بين النساء والرجال. يجب انخراط النساء مع الرجال وتحت نفس الشروط. يغفل المنافحون عن الرأي المضاد كل اعتبار تحريضي وتنظيمي أكد عليه لينين بل يدمغونه كضرب من الانتهازية وتنازل وخيانة للمبدأ.
هذا ليس أمرا جديدا وليس برهانا، قال لينين. – لا يجوز أن يضلكم هذا الموقف. لماذا إذن لا نشهد عندنا، حتى هنا في روسيا السوفييتية، عددا متساويا من النساء والرجال في الحزب. لماذا عدد النساء المنظمات نقابيا بهذه القلة؟ تدفعنا هذه الحقائق إلى التفكير. إن رفض إنشاء أجهزة خاصة، لا غني هنا، للعمل وسط جماهير النساء، هو طرح منبوذ من تصورات رفاقنا الأعزاء الراديكالية والمبدئية جدا من حزب العمال الشيوعي. لا يصح بحسب هذا الطرح سوى نمط واحد من التنظيم، اتحاد العمال. أعرف ذلك جيدا. تحل السنن المبدئية في بعض العقول الراديكالية، لكنها مشوشة، متى غابت سواها من المفاهيم. يقع هذا متى انغلقت العقول أمام الوقائع المجردة التي لا بد من أخذها في الاعتبار. كيف يتعامل حراس "المبدأ النقي" هؤلاء مع ضرورات السياسة الثورية التي يفرضها علينا التاريخ. كل هذا الهذر ينكسر أمام الضرورات الحرون. لا يمكن بدون ملايين النساء في صفنا أن نحقق ديكتاتورية البروليتاريا وبناء الشيوعية. لا بد أن نبحث عن درب يوصلنا إليهن، لا بد أن ندرس ونجرب حتى نجد هذا الدرب.
لا مندوحة إذن أن نصدع بمطالب لصالح النساء. هذا ليس تصورا أو برنامجا إصلاحيا على خطى الاشتراكية الديمقراطية أو الأممية الثانية. وهو ليس إقرارا أنا نعتقد في أبدية أو حتى بقاء هيمنة البرجوازية ودولتها، وهو ليس محاولة تطييب خواطر جماهير النساء بالإصلاحات وجذبهن من طريق الصراع الثوري، هو على أية حال ليس من نوع الهراء الإصلاحي. أن مطالبنا مطالب منطقية نستخلصها من الحاجات الماسة للنساء، الذل الذي يعشنه باستضعافهن وحرمانهن من الحقوق في النظام الرأسمالي. نثبت من هذا الباب أننا نعرف هذه الحاجات والمذلة التي تقاسيها النساء ونشعر بها كما نعرف حظوة الرجال، وأننا نكره كل ذلك، نعم نكرهه، ونريد التخلص منه، كل الذي يعذب ويحجم العاملة، زوجة العامل، الفلاحة، زوجة الرجل المسكين، بل في بعض الوجوه كذلك نساء الطبقات المالكة. تقوم الحقوق والإجراءات الاجتماعية التي نطالب بها للمرأة من المجتمع البرجوازي دليلا على أننا نفهم وضع ومصالح النساء، وأننا سنعطيها كل اعتبار تحت ديكتاتورية البروليتاريا. نقوم بذلك بطبيعة الحال ليس من موقع إصلاحيين ولاة على النساء، لكن من موقع ثوريين ينادون النساء للعمل المشترك كمتساوين من أجل قلب النظام الاقتصادي والبناء الآيديولوجي الفوقي.
أكدت للينين أني أشاركه الرأي، لكن هذا الرأي سيواجه حتما مقاومة، سيرفضه ذوو المزاج المتشكك والمتردد باعتباره ضرب من الانتهازية المريبة. فوق ذلك لا يمكن إنكار أن مقترحاتنا الحالية بخصوص مطالب النساء تفتح الباب لتصورات وتفسيرات خاطئة. ماذا قلت؟ صرخ لينين بغلظة. هذا الخطر يصح على كل ما نقول ونفعل. إذا سمحنا للخوف أن يحول بيننا وفعل ما نراه ضروريا وهادفا فلنتحول على الفور إلى روحانيين هنود. هل نمسك عن كل شيء، نظل ساكنين بالكلية، ثم نهوي عندها من برج مبادئنا العالي. الحاسم في حالتنا ليس فقط ما هي مطالبنا، بل كيف نحقق هذه المطالب. أعتقد أني أوضحت هذه المسألة بما يكفي. ومن الجلي أننا لن نطرح مطالبنا الخاصة بالنساء متعبدين كما تُطرح حبات المسبحة. لا، سنناضل من أجل هذا المطلب ثم من أجل ذاك المطلب بحسب ما تقتضي الظروف، وبطبيعة الحال على الدوام في اتصال مع مجمل مصالح البروليتاريا.
يضعنا كل نضال من هذا النوع في تناقض مع الزمر البرجوازية المحترمة وكذلك مع أتباعهم الإصلاحيين الأقل احتراما. يجبر مثل هذا التناقض هؤلاء على الاختيار بين النضال المشترك تحت قيادتنا، الأمر الذي لا يرغبون فيه، أو الكشف عن حقيقتهم. النضال هو الذي يميزنا ويجلي وجهنا الشيوعي، هو الذي يحقق لنا ثقة جماهير النساء الواسعة، من يشعرن بالاستغلال والاستعباد والقهر بواسطة هيمنة الرجال، بوساطة قوة أصحاب العمل وبواسطة المجتمع البرجوازي ككل. تدرك النساء العاملات، وقد خانهن الجميع أن عليهن النضال المشترك معنا. هل يجب أن أقسم لك أو أن أجعلك تقسمين أن النضال من أجل مطالب النساء لا بد يرتبط بهدف السيطرة على السلطة وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا؟ هذا هو أس المسألة في زماننا. هذا واضح. لكن لن تشعر جماهير نساء الشعب العامل بدفع جبار لا يمكن مقاومته لمشاركتنا النضال من أجل سلطة الدولة إن كان دأبنا الدعوة إلى هذا المطلب أو ذاك ليس إلا ولو بأبواق النشور. أبدا، أبدا! لا بد أن نعقد الصلة في وعي النساء بين دعوتنا وبين معاناة وحاجيات وأمنيات النساء العاملات. لا بد أن يدركن ماذا ستعني لهن ديكتاتورية البروليتاريا: المساواة التامة مع الرجال في القانون وفي الممارسة، في الأسرة، في الدولة وفي المجتمع، وتحطيم سلطة البرجوازية.
تثبت روسيا السوفييتية كل ذلك – أضفت من ناحيتي. روسيا هي مثالنا التعليمي الأكبر. واصل لينين: تلقي روسيا السوڤييتية ضوءا جديدا على مطالب النساء. لم تعد هذه المطالب تحت ديكتاتورية البروليتاريا موضوعا للصراع بين البروليتاريا والبرجوازية، لكنها صارت لبنات لبناء النظام الشيوعي. هذا يوضح للنساء في الخارج الأهمية الحاسمة لسيطرة البروليتاريا على السلطة. يجب كشف هذا الفرق بجلاء، حتى يمكنكم كسب جماهير النساء للنضالات الطبقية الثورية للبروليتاريا. إن حشد النساء على أساس من الوضوح النظري وعلى قاعدة تنظيمية ثابتة هو مسألة حياة أو موت للأحزاب الشيوعية وانتصاراتها. لكن لا يجوز أن نخاتل أنفسنا في هذه القضية. يعوز أقسامنا القطرية الفهم السليم لهذه القضية فهي ما زالت تتلكأ منتظرة في خصوص مهمة بناء حركة جماهيرية للنساء العاملات تحت قيادة شيوعية. لا يدركون أن تنمية وقيادة حركة جماهيرية كهذه جزء مهم من مجمل نشاط الحزب، بل نصف نشاط الحزب العام. وإقرارهم العرضي بضرورة وقيمة حركة نسائية شيوعية قوية وواضحة الهدف تظاهر فارغ، وليس شاغل دائم وواجب عملي للحزب.
يعتبر البعض العمل الدعائي والتحريضي وسط جماهير النساء، إيقاظ جماهير النساء وتثويرها، أمرا جانبيا، مسألة تخص الرفيقات فقط. ثم يلومون الرفيقات وحدهن على تعسر هذه المهمة وبطء التقدم فيها. هذا خطأ، خطأ من حيث المبدأ، بل انقسامية ومحض حقوقية نسائية مجافية لطبيعة القضية كما يقول الفرنسيون، حقوقية نسائية معكوسة. ما أساس خطأ أقسامنا القطرية هذا.؟ آخر الأمر ليس سوى التقليل من شأن المرأة ومنجزاتها. للأسف، ما زال يصح على كثير من رفاقنا القول: "أخدش سطح الشيوعي ويبين البرجوازي الصغير." يجب على المرء بطبيعة الحال خدش الموقع الحساس، العقلية بخصوص النساء. هل هنالك دليل أكثر قوة من أن الرجال يرقبون ساكنين مكابدة النساء الأعمال المنزلية المملة المهلكة المهدرة للوقت، التي تقتل فيهن الروح، تضيق الأفق، وتقبض على قلوبهن وتضعف إرادتهن. لا أتحدث بطبيعة الحال عن نساء البرجوازية، اللواتي يستأجرن من يأخذ عن كاهلهن أعمال المنزل ورعاية الأطفال. ينطبق ما أقول على الغالبية العظمى من النساء، زوجات العمال، من يخدمن فوق ذلك نهارا في المصانع لكسب العيش.
لا يفكر سوى القليل من الرجال، بما في ذلك البروليتاريين، في الذي يمكن تخفيفه من جهد وهم على النساء إن تولى الرجال بعض "أشغال الحريم". لكن لا، هذا ضد "حق ومكانة الرجل". يطالب الرجال بالراحة والسكينة بينما الحياة المنزلية للمرأة عبارة عن تضحية دائبة في مئات المهام التافهة. هيمنة الرجل القديمة حية ترزق وإن اندست. لكن تنتقم جاريته موضوعيا لنفسها، كذلك تحت ستار. تحجم رجعية المرأة وعدم استعدادها لتفهم مثله الثورية من عزمه وثباته النضالي شأنها شأن الديدان الصغيرة تقضم وتنخر ببطء دون أن تثير الانتباه. أعرف حياة العمال، وليس فقط من الكتب. يشمل عملنا الشيوعي وسط جماهير النساء وعملنا السياسي ككل الكثير من العمل التربوي وسط الرجال. لا بد أن نستأصل الموقف الذكوري حتى آخر وأدق جذوره، كان ذلك في الحزب أو وسط الجماهير. وهذا جزء من واجبنا السياسي مثله والضرورة الملحة لتكوين رفاق ورفيقات مدربين نظريا وعمليا على أحسن وجه لتنفيذ وإنجاز نشاطات الحزب وسط النساء العاملات.
أجابني لينين على سؤالي عما يتصل بموضوع المرأة في روسيا السوفييتية: تبذل حكومة ديكتاتورية البروليتاريا بطبيعة الحال بالتعاون مع الحزب الشيوعي والنقابات أقصى الجهود للتغلب على التصورات الرجعية للنساء والرجال ولسحب البساط من تحت أقدام المنظور القديم غير الشيوعي. المساواة التامة بين الرجل والمرأة أمر مفروغ منه من حيث التشريع. تشهد كل القطاعات جهدا صادقا لتنفيذ هذه المساواة واقعا. نعمل على دمج النساء في الاقتصاد الاجتماعي والإدارة والتشريع والحكومة. ونتيح لهن جميع الكورسات ومعاهد التدريب حتى ندفع بقدراتهن المهنية والاجتماعية إلى الأمام. نؤسس مطابخ جماعية ومطاعم عامة ومواقع للغسيل وكذلك حضانات وروضات للأطفال ودورا للأطفال ومعاهد للتربية من كل نوع. في اختصار، نأخذ مطلبنا البرامجي نقل الوظائف التربوية للمنزل المفرد إلى المجتمع بجد. وبذلك تتحرر المرأة من عبودية المنزل القديمة وينفك اعتمادها على الرجل، ويتاح لها بحسب موهبتها واستعدادها الفعالية الكاملة في المجتمع. وكذلك تُتاح للأطفال ظروف للنمو أفضل من المنزل. لدينا أكثر قوانين حماية العاملات تقدمية في العالم، ويتولى مفوضو العمال المنظمين تنفيذها. نشيد عيادات للولادة، ودورا للرضع ومواقع خاصة باستشارات الأمهات وكورسات لرعاية الرضع والأطفال ومعارض لحماية الأمهات والرضع وما شابه، كل ذلك لسد حاجيات النساء ممن لا عمل لهن ولا راعي.
نعلم جيدا أن كل هذا يسير بالقياس إلى حاجيات جماهير النساء العاملات، وأنه ليس سوى نذر قليل من الضروري لتحقيق حريتهن. لكنه رغم ذلك تقدم عظيم بالمقارنة مع الوضع الذي كان في روسيا القيصرية الرأسمالية، بل بالمقارنة حتى مع البلاد التي تطغى فيها الرأسمالية لا يحبسها شيء. هو بداية جيدة في الاتجاه الصحيح سنبني عليها بثبات وعزم، وبكل ما لدينا من طاقة. ثقوا بذلك في الخارج. يتضح في كل يوم من وجود الدولة السوفييتية أننا لا يمكن أن نحقق أي تقدم من دون ملايين انساء. تصوري ماذا يعني أن يكون 80٪ من سكان بلد ما فلاحين. الاقتصاد الفلاحي الصغير يعني الدار الفردي، وحبس النساء فيه. ستكون مهمتكم من هذه الناحية أسهل بكثير منا متى ما أدركت البروليتاريات أخيرا نضوج الشروط الموضوعية التاريخية لسيطرة الثورة على السلطة، وهو أمر لا نشك فيه. تنمو قوانا مع الصعوبات التي نواجه. ستدفعنا ضرورة الممارسة نحو دروب جديدة بما في ذلك في خصوص تحرير جماهير النساء من ربق العبودية. ستنجز التعاونيات بالعمل المشترك مع الدولة السوفييتية مهاما عظمى. أقصد بطبيعة الحال التعاونيات في المعنى الشيوعي وليس في المعنى البرجوازي كما يبشر بذلك الإصلاحيون، من يتبخر حماسهم الثوري كما بخار الخل الرخيص. لا بد أن تزدوج التعاونيات مع المبادرة الشخصية، وتندمج هذه في تلك. سيتحقق تحرير المرأة في القرى تحت ديكتاتورية البروليتاريا يدا بيد مع الشيوعية قيد التحقق. أأمل لذلك في النفع الكثير من كهربة صناعتنا وزراعتنا. هذا عمل جبار بحق! وجبارة هي صعوبات تنفيذه. لا بد من إطلاق قوى جماهيرية هائلة للتغلب عليها ومن ضمنها قوة الملايين من النساء.
سمعت طرق الباب مرتين خلال العشر دقائق الأخيرة لكن لينين استمر في الحديث، ثم فتح الباب وهتف: أنا قادم في الحال. أقبل علي وواصل ضاحكا. تعرفين يا كلارا، أستغل سانحة أن امرأة معي وأبرر تأخيري بحجة ثرثرة النساء المعروفة، رغم أن من يثرثر في هذه المرة الرجل وليست المرأة. بالمناسبة، أعطيك مني شهادة موثقة أنك مستمعة جادة. وهذا ربما ما حفزني على الإطناب. ساعدني لينين أثناء هذه الكلمات المازحة في ارتداء معطفي. وزاد بحرص: لا بد أن ترتدي ثيابا أكثر دفئا. موسكو ليست شتوتغارت. لا بد من رعايتك، مخافة أن تُصابي بنزلة برد. إلى لقاء. صافحني بقوة.
كانت لي مقابلة أخرى مع لينين حول الحركة النسائية بعدها بأسبوعين تقريبا. جاءني لينين هذه المرة. كانت زيارته، كما في معظم الأحيان، غير متوقعة، ارتجال في وسط الواجبات الطائلة التي يجب على قائد الثورة الظافرة إنجازها. كان يبدو على لينين الاستعجال والانقباض. لم تكن هزيمة رانغل[6] قد اكتملت، وأوضاع التموين الغذائي في المدن الكبرى تحملق في الحكومة السوفييتية بعناد كما أبو الهول.
سألني لينين عن موقف الموجهات أو المقترحات. نقلت له أن لجنة ضمت كل الرفيقات القائدات الموجودات في موسكو اجتمعت وقد عبرن عن آرائهن. والآن الموجهات جاهزة وسيتم نقاشها في لجنة أصغر. قال لينين أنه يجب أن نضمن أن يناقش المؤتمر الدولي الثالث المسألة بالتفصيل الذي تستحق. سيمكن هذا لوحده من التغلب على بعض الأحكام المسبقة وسط الرفاق. ولا بد بالمناسبة أن تأخذ الرفيقات زمام المبادرة وبقوة، لا يتمتمن بالله كما الخالات الطيبات، بل يجب أن يتحدثن كمناضلات، بصوت عال وواضح – قال لينين بحيوية. المؤتمر ليس صالونا تخطف فيه النساء الأنظار باللطف كما في الروايات. المؤتمر موقع صراع، صراع نخوضه حول المعارف من أجل العمل الثوري. أثبتن أنكن قادرات على الصراع، ضد الأعداء في المقام الأول بطبيعة الحال، لكن كذلك داخل الحزب متى دعت الضرورة. القضية هي جماهير النساء الكبيرة. سيساند حزبنا الروسي كل المقترحات والإجراءات التي ستساعد على فتح هذه الجبهة. إذا لم نكسب هذه الجماهير إلى جانبنا سيتمكن أنصار الثورة المضادة من قيادتها ضدنا. يجب أن نفكر في ذلك على الدوام.
مر عام على البروليتاريا الثورية في غياب لينين، عام برهن على ثبات إنجازه وعلى عبقرية قيادته الفذة وكشف كذلك مقدار هذا الفقد الجلل الذي لا يمكن تعويضه. أعلنت طلقات المدافع الساعة المريرة التي أغلق فيها لينين عيناه المبصرة بعيدا وواسعا لآخر مرة. أرى صفوفا لا نهاية لها من الرجال والنساء العاملين يزورون مرقده الأخير واجمين. حزنهم من حزني ومن حزن الملايين. تبزغ من الألم المتجدد الذكرى الذاخرة كحقيقة حية يتضاءل أمامها الألم الحاضر. أسمع كل كلمة قالها لينين في حديثه، وأرى كل تبدل في تعابيره. تُنكس الرايات عند مرقد لينين، رايات روتها دماء مناضلي الثورة. تتراص أكاليل الزهور عند قبره، ولا تكفي، أضيف إليها هذه الصفحات المتواضعة.
موسكو، نهاية يناير 1925
[1] Bernstein, Eduard. Evolutionary Socialism: A Criticism and Affirmation. New York: Schocken Books, 1963.
[2] Luxemburg, Rosa. Reform Or Revolution. New York: Pathfinder Press, 1973.
[3] يقصد لينين كتاب أوغوست بيبل "المرأة في الماضي، الحاضر والمستقبل" (1885).
Bebel, August. Woman in the Past, Present and Future. London: Modern Press, 1885.
[4] Engels, Friedrich. The Origin of the Family, Private Property and the State. London: Verso Books, 2021.
[5] شاعر وكاتب قصة وصحفي ومسرحي وضابط جيش من إيطاليا، أعماله مثال بارز على أدب مدرسة التفسخ التي ارتبطت بالمدرسة الرمزية الفرنسية والجمالية البريطانية. صار بعد الحرب الأولى بطلا للقومية الإيطالية وبشر بصيغة متطرفة كانت إرهاصا للفاشية.
[6] بيوتر رانغل (1878-1928) ضابط روسي من أصل ألماني في الجيش الروسي الإمبراطوري اشتهر باسم البارون الأسود، تولى في المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية في روسيا قيادة القوات المعادية للبلشفية والجيش الأحمر في الجنوب الروسي.